سورة ق - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (ق)


        


{ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (11)}.
التفسير:
قوله تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}.
ما يقال عن ق هو ما قيل فيما مضى عن الحروف المقطعة.
ومطلع السورة هنا شبيه بمطلع سورة ص.
حيث بدئت السورة بالحرف ص ثم بالقسم بالقرآن ذى الذكر، ثم مواجهة المشركين بمقولاتهم المنكرة في القرآن الكريم، وفى الرسول الذي يتلو آيات اللّه عليهم.
والواو في قوله تعالى: {وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} للقسم، والقرآن المجيد، مقسم به، ووصف القرآن الكريم بأنه مجيد، إشارة إلى صفاء جوهره، ومجادة ذاته، والمجيد صفة من صفات اللّه سبحانه وتعالى، كما يقول سبحانه: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ، ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [14، 15: البروج] وقد جعل اللّه سبحانه هذه الصفة لكلامه، لأن كلام اللّه سبحانه، صفة من صفاته، والصفة عين الموصوف.
قوله تعالى: {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ}.
هو إضراب عن تساؤلات تتردّد في الوجود كله، حين يستمع إلى هذا القسم من رب العالمين، بكلامه المجيد.. حيث يتلفت الوجود كله إلى مواقع هذا القرآن، وإلى المتجه الذي يتجه إليه، وهل عرف الناس قدره؟ وهل اهتدوا بالنور الذي يطلع عليهم منه؟.. فكان الجواب: كلّا.. {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ}.
أي أن الذين جاء إليهم هذا القرآن لم يلتفتوا إليه، ولم يأخذوا بشىء منه، لا لشىء في هذا القرآن،- لأنهم لم ينظروا فيه أصلا- وإنما لأن الذي جاءهم بهذا القرآن هو رجل منهم، فكان ذلك حجازا بينهم وبين أن ينظروا في شيء من هذا القرآن، وأن يستمعوا إلى ما يتلى عليهم منه، لأن الذي يتلوه عليهم رجل منهم!! وكيف لرجل منهم أن يأخذ هذا المكان منهم، ويقوم بالسفارة بينهم وبين اللّه، ويصبح صاحب كلمة اللّه إليهم؟ وأين هم إذن؟ وأين أغنياؤهم وأصحاب السيادة فيهم؟.
فلتتخطفهم العقبان، ولتحرقهم الرجوم.. فذلك أهون عليهم من أن يسودهم سيد، أو يقوم عليهم قيّم!! هكذا فكروا وقدروا: {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ}! وأخذوا يرددون مقولات الدهش والتعجب والإنكار: {أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا؟ بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} [25: القمر] {لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [31: الزخرف].. {ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً} [7: الفرقان].
وقوله تعالى: {فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ} الإشارة هنا إلى ما أثار عجب الكافرين من هذا القرآن المجيد، وهو أن يجيئهم هذا القرآن على لسان رجل منهم.. فهذا- عندهم- مما يثير العجب والدهش، ثم الإنكار.
قوله تعالى: {أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ}.
هو مما تسلط عليه اسم الإشارة، هذا، في الآية السابقة.. فقولهم {هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ} مشار به إلى ما سبقه من قوله تعالى: {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ}.
ثم هو مشاربه إلى ما بعده من قوله تعالى: {أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً} أي أإذا متنا وكنا ترابا تعود إلينا الحياة مرة أخرى؟ {ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ}! تفكره الحياة، ولا تصدقه العقول!! فما أبعد ما بين الحياة وهذا التراب الهامد الذي غربت فيه الحياة! هكذا يقولون، ساخرين، مستهزئين.
قوله تعالى: {قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ}.
هو ردّ على استبعاد الكافرين لعودة الحياة إليهم مرة أخرى، بعد أن يذوبوا في التراب، ويصيروا بعضا منه.
فاللّه سبحانه وتعالى يعلم ما أخذت الأرض منهم، وما أكلت من ذرّات أجسامهم، ذرة ذرة.. فإذا أراد اللّه سبحانه عودة الحياة إليهم دعا هذه الذرات المتنائرة في الأرض، ونظم منها عقد الحياة من جديد، كما تنظم حبّات العقد في خيط جديد بعد أن ينقطع خيطها الذي بلى فانقطع! فهذه الذرات التي تنائرت في الأرض، هى محفوظة في كتاب حفيظ، لا يضيع منه شىء.
قوله تعالى {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ}.
هو إضراب آخر لبيان موقف الكافرين من آيات اللّه، بعد أن بين الإضراب السابق موقفهم من الرسول الذي حمل إليهم هذه الآيات.. إن جنايتهم جناية غليظة مزدوجة.. فهم يتهمون الرسول الذي حمل إليهم رسالة اللّه، وكلماته.. ثم دفع بهم هذا الاتهام إلى أن يخرجوا عن عقولهم، وأن يكذّبوا هذا الحق الواضح الذي يملأ عليهم الوجود من آيات اللّه.. فإذا كان اتهامهم للرسول مما يجدون له عذرا عند أنفسهم، متعللين لذلك بما يجدون في صدورهم من حرج في أن يستجيبوا لرجل منهم، وأن يمتثلوا الدعوة التي يدعوهم إليها- فإن اتهامهم لهذا القرآن الذي يتلى عليهم، والذي ينطق بالحق المبين الواضح، لا يقوم له عذر، حتى عند أنفسهم، فهم يكذبون عن عمد، ويذهبون مذهب الضلال على علم.. وهذا ما يجعل جرمهم أشنع الجرم وأغلظه.
وقوله تعالى: {فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ}.
الأمر المريج: المختلط، الذي يموج بعضه في بعض، ومنه قوله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ} أي خلط بعضهما ببعض، وجمع بين الملح والعذب، في هذه الأمواج التي تتضارب عند التقائهما.. ومنه قوله تعالى: {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ}.
حيث يضطرب اللهب ويتماوج بيد الهواء الذي يسبب عملية الاحتراق.
والأمر المريج الذي فيه هؤلاء الكافرون، هو اضطراب مقولاتهم في الرسول الكريم، وفى القرآن المجيد.. شأنهم في هذا شأن كل من يركب متاهات الطرق، وطوامسها، فلا يدرى أىّ اتجاه يتجه.. إنه يتجه تارة يمينا وتارة شمالا، ومرة وراء، ومرة خلفا.. إنه لا يأخذ في اتجاه حتى تساوره الشكوك. والظنون، فيعدل عنه إلى غيره، الذي يحسب أنه الطريق القاصد، ثم لا يلبث أن يتهم نفسه فيما حسب، فيعدل.. وهكذا.
هذا شأن الإنسان وحده مع نفسه.. فإذا كانوا جماعة على ضلال، كان لكل منهم وجهة، ولكل سبيل، ومع الوجهة وجهات، ومع السبيل سبل.. أما من كان على الحق، سواء أكان وحده أو في جماعة، فإن الطريق واحد، له ولهم، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [153: الأنعام].. وقد شرح الرسول الكريم، هذه الآية الكريمة في الحديث الشريف الذي يروى عن ابن مسعود، قال: خطّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خطّا بيده ثم قال: «هذا سبيل اللّه مستقيما وخط عن يمينه وشماله، ثم قال: هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه» ثم تلا الآية: {وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً..}.
قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ}.
فى هذه الآية لقاء مع الكافرين، بعيدا عن الرسول وعن القرآن الذي بين يديه.. إنه لقاء مع عقولهم، إن كانت لهم عقول- فليدعوا الرسول وما جاءهم به، ثم لينظروا نظرا مجردا، لا يرد عليهم منه هذه الشبه التي وردت عليهم من أهوائهم، حين نظروا إلى اللّه سبحانه وتعالى من خلال الرسول، الذي يدعوهم إلى اللّه، وما أثار هذا من الحسد ودخان الغيرة أن يكون لرجل منهم هذه النعمة التي أنعم اللّه بها عليه.
فليدعوا الرسول، وليدعوا ما يتلوه عليهم من آيات اللّه، وليكونوا هم رسل أنفسهم، في دعوتها إلى اللّه، والتعرف عليه.
فلينظروا إلى السماء فوقهم.. إنها ليست بعيدة عنهم، بل هى قائمة فوق رءوسهم، لا تحتاج رؤيتها إلى أكثر من أن يفتحوا عيونهم عليها.. فإنهم إن فعلوا، كان عليهم- إن كانوا يريدون الحقّ والهدى- أن يجيبوا على هذه الأسئلة التي تطلع عليهم من وراء النظر إلى السماء: كيف قامت هذه السماء؟
ومن أقامها؟ ومن زينها بالكواكب؟ ومن أحكم نظامها، ونظام الجاريات فيها، فلم تتصادم كواكبها، ولم تنطفىء أضوؤها وأنوارها المنبعثة منها على آماد السنين وتطاول الأزمان؟ فهل نظروا إلى السماء فوقهم؟ وهل أثار هذا النظر عقولهم، فسألوا أنفسهم تلك الأسئلة؟ وهل بحثوا عن جواب لها؟ إنهم لم ينظروا، ولو نظروا ما رأوا شيئا من هذا كله، لأنهم ينظرون بعيون كليلة، وعقول سقيمة، وقلوب مريضة! وقوله تعالى {ما لَها مِنْ فُرُوجٍ} الفروج، الصدوع، والتشققات التي تكون بين الشيء والشيء.. والمراد بنفي هذا العارض من الفروج عن السماء أنها على امتدادها، واتساعها الذي لا حدود له، قد قامت بناء راسخا، متلاحم النسج، لا تفاوت فيه: {ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ.. فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ؟} [3: الملك] قوله تعالى: {وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}.
وإذا كان هؤلاء الكافرون المشركون قد كلّت أبصارهم عن أن ترى السماء وما فيها من دلائل القدرة، والحكمة، والعلم، فلينظروا إلى مواطىء أقدامهم.. إلى هذه الأرض التي يمشون عليها.. إنهم لو نظروا نظرا باحثا متفحصا لرأوا الأرض غير الأرض، ولرأوا فيها من آيات اللّه، ودلائل قدرته وحكمته وعلمه، ما لم يروه، وهم يمشون فيها بعيون مقفلة، وقلوب فارغة، وعقول لاهية.. إنها كون فسيح ممدود إلى غايات بعيدة، تتجاوز هذا القدر المحدود الذي لا يتعدّى مواطىء أقدامهم، ولا يخرج عن محيط مغداهم ومراحهم.. وإن هذه الجبال التي تطاول السماء بين أيديهم، ليست مجرّد أكوام من الأحجار، بل هى أوتاد تمسك هذه الأرض أن تميد، وتضطرب بما عليها من موجودات.. وإن هذه الزروع والحدائق، والمروج التي تغطّى وجه الأرض، ليست إفرازا من إفرازاتها، وإنما هى حلل من الجمال، والبهجة والحسن، كساها اللّه سبحانه وتعالى بها، حتى تطيب للناس الحياة فيها، وحتى تفيض عليهم بهجة وحبورا، مما تنتعش به النفوس، وتسعد به القلوب، فلا يكون حظّ الإنسان من هذه الزروع مقصورا على الغذاء الذي يملأ البطون، كما هو حظ الحيوان، الذي لا يعنيه من أمر هذه الخيرات إلا أن يملأ بطنه منها.
قوله تعالى: {تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ}.
هو بيان للعلة التي من أجلها قامت السموات والأرض على هذا النظام البديع المتقن، المحلّى بحلي الجمال والبهجة.. إن في هذا كله ما يفتح البصائر إلى مطالع الحق، ويمدّ العقول بكمالات المعارف الموصلة إلى اللّه، وذلك حين تصادف الإنسان الذي لم تفسد فطرته، ولم تنطمس بصيرته، ولم تستول على عقله الضلالات والسفاهات.
والعبد المنيب، هو العبد المستعدّ لقبول الخير حين يدعى إليه، ولاتباع سبيل الحق حين يستبين له وجهه!
قوله تعالى: {وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ}.
وهذا معرض ثالث من معارض النظر، ومراد من مرادات التدبر والتفكّر.
وأنه إذا كان هؤلاء الكافرون الضالون، قد كلّت أبصارهم عن أن تصافح السماء، وتقع على موقع العبرة والعظة منها، وأن يعموا أو يتعلموا عن الأرض وما بين أيديهم من آيات اللّه منها- إذا كان هذا شأنهم فيما في السموات والأرض، فهذا معرض جديد من معارض النظر، ليس في السماء، ولا في الأرض، وإنما هو بين السماء والأرض، وفى مستوى النظر، لكل ذى نظر لا يتكلف له مدّ بصره إلى السماء، ولا إلقاء نظره على الأرض، بل حسبه أن يفتح بصره مجرد فتح، فيرى هذا المطر المتدفق من السماء إلى الأرض.
أفلا يرى هذا الماء أيضا؟ إنه إن لم يكن يراه، فإن الماء برجمه بهذه القطرات التي تتساقط عليه، حتى يستيقظ ويصحو من ذهوله وغفلته.
وهذا الماء.. ما شأنه؟ ومن أين جاء؟ ولم جاء؟
إنه لم يكن عن مصادفة، ولم يقع حيث وقع إلا ليبعث الحياة في الأرض الهامدة ويخرج من بطنها هذه الجنات والزروع التي يحيا عليها، ويعيش من ثمرها وحبّها الإنسان والحيوان.
وفى وصف الماء بأنه مبارك، إشارة إلى ما يحمل هذا الماء الذي كثيرا ما تستخف به العيون، ولا تتملّاه الأبصار، من خيرات ونعم، ولا يحصيها المحصون، ولا يدرك أسرارها إلا أولو الأبصار من عباد اللّه.
إن قطرات هذا الماء المنزل من السماء، هى أرواح تلبس الأرض كما تلبس الأرواح عالم الأجساد، فيكون منها هذا الإنسان الذي يبلغ به الغرور إلى أن يكون إلها في الأرض، بأبى أن يعطى ولاءه للّه رب العالمين..!!
قوله تعالى: {وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ}.
هو معطوف على قوله تعالى: {جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} أي وأنبتنا بهذا الماء المبارك جنات، وزروعا، ونخلا باسقات.
وفى تعريف النخل، مع اختصاصها بالذكر من بين ما في الجنات من أشجار- في هذا إشارة إلى تكريم هذه الشجرة المباركة، لما فيها من منافع كثيرة تجتنى من كل شيء فيها.. من جذرها إلى جذعها، إلى ليفها، إلى جريدها، إلى سعفها، إلى تمرها، إلى نوى هذا التمر.. فهى شجرة كلها خير ونفع، ليس فيها شيء يلفظ، مع عظم جسمها، وامتداد طولها.. ولهذا كانت وصاة النبي الكريم بها في قوله- صلوات اللّه وسلامه عليه: أكرموا عماتكم النخل، فإنهن خلقن من طينة آدم.
هذا، وتحتل النخلة مكان القمة في المملكة النباتية، كما يأخذ الإنسان مكان القمة في المملكة الحيوانية.. ولهذا كثر ذكرها في القرآن، وخاصة في معرض التذكير بنعم اللّه، وبما بين يدى الناس من هذه النعم، التي تتجلى في الجنات والزروع.. فلا تكاد تذكر الجنات وما فيها من ثمر، حتى تأخذ النخل مكان الصدارة، أو تنفرد وحدها بالذكر، اكتفاء بها عن كل شجر غيرها، وحتى لكأنّ الجنة لا تكون جنة إلا إذا كانت النخل آخذة مكانها فيها.. يقول تبارك وتعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ، وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ} [26: البقرة] ويقول سبحانه:
{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً} [32: الكهف] ويقول جل شأنه على لسان صالح عليه السلام، وهو يحاج قومه بنعم اللّه عليهم: {أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ} [146- 148: الشعراء].
ويقول سبحانه: {يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ} [11: النحل].. ويقول جل شأنه لمريم: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً} [25- 26 مريم].
فقد كانت النخلة قائمة بمشهد من هذه المعجزة التي ستطل على الوجود بميلاد المسيح عليه السلام، روح اللّه وكلمته إلى مريم.. فكانت متكأ لمريم، وصدرا حانيا تستند إليه في شدتها التي كانت تعانى منها، كما كان ثمرها مائدة اللّه التي دعا مريم إلى أن تطعم منها.. إنها خير ثمر وأطيب ما تخرج الأرض من ثمر! وقوله تعالى: {باسِقاتٍ} أي عاليات، تطاول أعناقها السماء، فلا تكاد شجرة في الأرض تبلغ المدى الذي تصل إليه، وكأنها بهذا تتربع على عرش للملكة النباتية، وتشرف عليها من هذا العلو.
وقوله تعالى: {لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ} الطلع أول ما يبدو من ثمر النخل، حين يتفتح الجراب الذي يضم في كيانه زهر هذا الثمر.. والنضيد: المنضود، وهو المرصوص في نظام تجتمع فيه الحبات، كما تجتمع حبات العقد النظيم.
وفى هذا الوصف للنخلة في سموقها وطولها، وللثمر في تنضيده، وانتظام حباته- في هذا إلفات إلى هذا الحسن الرائع، والجلال المهيب، مما يراه الذين يرون مواقع الحسن والروعة والجمال والجلال في آيات اللّه، وما أبدعت قدرته في هذا الوجود!
قوله تعالى: {رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ}.
هو بيان لبعض ما لهذه الجنّات والزروع والنخيل من أثر في حياة الناس، وأنها مما يرزقه اللّه عباده من رزق كريم.
وقوله تعالى: {وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً} معطوف على قوله تعالى: {فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ}.
أي وأحيينا بهذا الماء بلدة ميتا، فلو لا هذا الماء ما قامت حياة على هذه الأرض، وما قامت هذه البلاد العامرة، والتي كانت قبل الماء ترابا هامدا.
وقوله تعالى: {كَذلِكَ الْخُرُوجُ} هو تعقيب على قوله تعالى: {وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً}.
أي أنه كما أقام الماء هذه الحياة من الأرض الميتة، فإنه غير منكور أن يبعث الموتى من القبور، ويلبسوا الحياة من جديد، كما لبست الأرض الميتة الهامدة هذه الحياة حين أصابها الماء، وسرى في أوصالها.


{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (26)}.
التفسير:
قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ}.
أصحاب الرس: قيل إنهم أهل قرية باليمامة، وقد كثرت الأقوال فيهم، زمانا ومكانا، كما أن القرآن لم يذكر اسم رسولهم وأصحاب الأيكة: هم قوم شعيب، والأيكة: الشجر الكثير الكثيف.
وقوم تبع: هم أهل سبأ، من اليمن، وقد ذكرهم القرآن، وذكر كفرهم بنعم اللّه، وقد أرسل اللّه عليهم سيل العرم، فأتى على كل عامر بين أيديهم.
والضمير في {قبلهم} يعود إلى مشركى مكة.. وهم المخاطبون بالآيات السابقة.
وفى هذه الآيات تعرض عليهم صورة من حياة الماضين الذين كانوا على ضلال كهؤلاء الضالين.. وقد عرضت عليهم من قبل آيات اللّه، تحمل إليهم دلائل قدرته، وما أفاض عليهم، وعلى العباد من نعمه ومننه، فإن هم لم ينظروا في هذه الآيات، ويهتدوا إلى اللّه، ويؤمنوا به، ويشكروا له، أخذهم اللّه بما أخذ به الضالين المكذبين قبلهم.. فهم ليسوا أول من كذب بآيات اللّه، وبهت رسل اللّه، وهم لن يخرجوا عن سنة اللّه التي خلت في أخذ الظالمين بظلمهم، وإنزال البلاء بهم.
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ}.
فهؤلاء بعض المكذبين في القرون الماضية، والأمم الغابرة، وقد علم المشركون أخبارهم، وما كان من أخذ اللّه لهم، ووقعاته فيهم.. ولهذا خصهم اللّه بالذكر.
ويلاحظ هنا أن فرعون ذكر وحده، دون قومه، وعدّ وحده مجتمعا قائما بذاته، إذ كان سلطانه ممكنا في قومه، وكان قومه جميعا في قبضة يده، فكفر قومه تبع لكفره، كما يقول سبحانه: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ} [54: الزخرف].
وقوله تعالى: {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ} أي أن هؤلاء الأقوام جميعا كذبوا رسل اللّه السابقين، كما كذب المشركون رسول اللّه محمدا.
وقوله تعالى: {فَحَقَّ وَعِيدِ} أي وجب عليهم وعيد اللّه ولزمهم.. ووعيد اللّه عذابه الذي توعد به المكذبين والضالين.
قوله تعالى: {أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ}.
عادت الآيات لتكشف عن الآفة التي أفسدت على المشركين أمرهم، وباعدت بينهم وبين الإيمان باللّه، والتصديق برسول اللّه.. وتلك الآفة هى استبعادهم للحياة بعد الموت، ثم الحساب والجزاء.. وكان قولهم في هذا ما حكاه القرآن عنهم في قوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [37: المؤمنون].
فقضية البعث والقيامة، هى المدخل الذي دخل منه على القوم كل كفر وضلال.
إنهم مستعدون لأن يؤمنوا باللّه، وأن يفردوه وحده بالألوهية.. ولكن الأمر الذي لا يقبلونه، هو الإيمان باليوم الآخر، فذلك ما لا يتصورونه، ولا يسمعون لقول يقال لهم فيه.
والإيمان كلّ لا يتجزأ، فمن آمن باللّه، وكفر بكتبه، ورسله واليوم الآخر، فهو على غير سبيل المؤمنين، واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً} [115: النساء].
فقوله تعالى: {أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ} هو مواجهة للمشركين بما ينكرونه من أمر البعث، وما يقع في تصورهم من استبعاد له.
فهذا الاستفهام ينكر على المشركين ضلال تصورهم لقدرة اللّه، وسوء إدراكهم لآثار تلك القدرة.. فهذا الوجود القائم، بعوالمه المختلفة في السموات والأرض- ألم يكن من صنعة اللّه؟ فهل عجز اللّه- سبحانه- عن أن يبدع هذه المبدعات؟ وهل أعياه أمرها؟ فكيف يعجز سبحانه عن إعادة ما انتثر من عقدها؟ وكيف يعيا- سبحانه- عن أن يبعث الحياة فيما همد من أحيائها؟
ذلك ما لا يقبله عقل نظر في خلق الوجود كله ابتداء، ثم تطلع إلى طيه ونشره ثانيا!.
وقوله تعالى: {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ}.
للبس: الاختلاط الذي يقع من عدم وضوح الرؤية للأمر، وتبيّن وجه الحق فيه.
واللّبس الذي لبس عقول المشركين واستولى عليها، هو فيما يتعلق بالبعث، وإعادة الحياة إليهم بعد الموت.
وهذا مما يشير إليه قوله تعالى في آية سابقة من هذه السورة، وهى قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ}.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}.
فى هذه الآية عرض آخر لقدرة اللّه سبحانه وتعالى، وقد غاب مفهوم هذه القدرة عن عقول هؤلاء المشركين.. وفى إعادة هذا العرض لقدرة اللّه، تذكير لهم ببعض مظاهرة هذه القدرة، ليراجعوا عقولهم مرة أخرى، وليرجعوا من طريق الضلال الذي هم سائرون فيه.
فاللّه سبحانه، هو الذي خلق هذا الإنسان من تراب الأرض، فجعل منه هذا الكائن العاقل، السميع، البصير، وهو سبحانه الذي يعلم من أمر هذا الإنسان ما توسوس به نفسه من خواطر، وما يضطرب فيها من خلجات.
وهو سبحانه أقرب إلى الإنسان- كل إنسان- من حبل الوريد.
وحبل الوريد: هو عرق في صفحة العنق.. وسمّى العرق حبلا، لأنه يشبه الحبل في امتداده واستدارته.. وسمى وريدا، لأنه يستورد الدم النقي من القلب، ويصبّه في الأوعية الدموية التي يتغذى منها الجسم.
قوله تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ}.
أي أن اللّه سبحانه مع قربه هذا القرب المستولى على كيان الإنسان كله، ظاهرا وباطنا- فإنه سبحانه قد وكل بهذا الإنسان جنديين من جنوده، يتلقيان منه كل ما يصدر عنه، من قول أو فعل، فيكتبانه في كتاب يلقاه منشورا يوم القيامة.
و{إذ} ظرف متعلق بقوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} بمعنى أن اللّه سبحانه وتعالى أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد، وفى الوقت نفسه يقوم عليه جنديان من جنود اللّه، يسجلان عليه كل ما يقول، أو يفعل.. كما يقول سبحانه: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ}.
فكيف يكون للإنسان مهرب من الحساب والجزاء؟
قوله تعالى: {ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} هو بيان شارح لوظيفة الجنديين القاعدين عن يمين الإنسان وعن شماله.. فهما واقفان للإنسان بالمرصاد.. ما يلفظ من قول إلا كان على هذا القول {رقيب} أي مراقب، يسمع ما يقال، ويسجله، وهو {عتيد} أي حاضر دائما لا يغيب أبدا.. وليس رقيب وعتيد، اسمين للملكين القائمين على الإنسان، الموكلان به، وإنما ذلك وصف لكلّ منهما، فكل منهما رقيب يقظ، حاضر أبدا.
قوله تعالى: {وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ}.
سكرة الموت: ما يغشى الإنسان ساعة الاحتضار، من غيبوبة أشبه بغيبوبة من يقع تحت خمار الخمر، فتنطفىء لذلك تلك الشعلة التي تمدّ كيانه بالحرارة والحركة، ويبدو وكأنه جثة هامدة، بلا شعور، ولا حركة، ولا وعى!.
وقوله تعالى {بِالْحَقِّ} متعلق بالفعل {جاء} أي جاءت سكرة الموت محملة بالحق، الذي غاب عن هذا الإنسان الذي لا يؤمن باليوم الآخر، حيث يرى عند الاحتضار، ما لم يكن يراه من قبل، وحيث يبدو له في تلك الساعة كثير من شواهد الحياة الآخرة، التي هو آخذ طريقه إليها.
وقوله تعالى: {ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} الإشارة إلى {الحق} وهو الموت، وما وراءه من بعث وحساب وجزاء.. وذلك الحق هو ما كان هذا الكافر باليوم الآخر، منكرا له، حائدا عن الداعي إليه، المنذر به.
وقرىء: {وجاء سكرة الحق بالموت} ويكون المعنى على هذا، وجاءت سكرة الحق بالموت الذي كان يحيد عنه هذا الإنسان، والذي كان في حياته غير مقدر أنه سيموت.. {يحسب أن ماله أخلده}.
فهو لهذا غافل عن الموت، كما يقول سبحانه وتعالى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}.
قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ}.
هو عرض للأحداث التي تجىء بعد الموت.. فليس هذا الموت هو آخر المطاف، وإنما وراءه بعث، وحساب، وجزاء.
والنفخ في الصور، هو كناية عن أمر اللّه، ودعوته إلى الموتى بالخروج من قبورهم، كما يقول سبحانه: {ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} [25: الروم].
والصور: أداة ينفخ فيها، عند كل أمر عظيم، يجتمع له الناس، لحرب أو نحوها.. وكان يتخذ عادة من قرن حيوان من ذوات القرون الكبيرة كالوعول ونحوها.
وقوله تعالى: {ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} أي ذلك النفخ إيذان بحلول يوم الوعيد، وهو يوم القيامة، الذي توعّد اللّه سبحانه وتعالى فيه أهل الشرك والضلال، بالعذاب الأليم في نار جهنم.
قوله تعالى: {وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ} أي في هذا اليوم- يوم الوعيد- تجىء كل نفس ومعها {سائِقٌ} من ورائها يسوقها إلى المحشر، وموقف الحساب، {وَشَهِيدٌ} وهو الذي يشهد على الإنسان بما كان منه في الدنيا، من إيمان باللّه وباليوم الآخر، أو كفر باللّه، وبالبعث والحساب والجزاء.. فهو يحضر الحساب، ويشهد على الإنسان بما عمل.
ومع كل إنسان أكثر من شاهد.. فهناك الرسول الذي يشهد على قومه، كما يقول سبحانه: {فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً} [41: النساء]، وكما يقول جل شأنه: {وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ} [75: القصص].. وهناك الجوارح التي تشهد على الإنسان، كما يقول سبحانه: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ} [24: النور].. وهناك الملكان الموكّلان بالإنسان، واللذان سجلا عليه كل أعماله..
وقد أفرد هؤلاء الشهداء، فكانوا {شهيدا} واحدا، لأنهم يشهدون شهادة واحدة، لا اختلاف فيها، لأنها شهادة الحق الذي لا تشوبه شائبة من كذب، أو افتراء.. فكانوا بهذا أشبه بشاهد واحد، وكأنهم صوت يتردد.. له أكثر من صدى.
قوله تعالى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}.
هو جواب عن تساؤلات كثيرة يتساءلها هذا الإنسان الذي كان لا يؤمن باللّه، ولا باليوم الآخر.. وذلك أنه حين ينفخ في الصور، ويخرج من قبره مع الخارجين من قبورهم- يدهش لهذا الأمر، وتعروه منه حال من التبلد والجمود والحيرة، وكأنه في حلم رهيب مزعج.. ويسأل نفسه ما هذا الذي يجرى حوله؟ وأين هو؟ وما خطبه؟ وماذا يراد به وبالناس؟.
إلى غير ذلك من الأسئلة التي لا يجد لها جوابا.. ثم ينكشف له الأمر حالا بعد حال، وإذا منادى الحق يناديه هذا النداء الذي يكشف له عن المصير المشئوم الذي هو صائر إليه: {لقد كنت في غفلة من هذا} في حياتك الدنيا، لا تستمع إلى من يحدثك به، ويقدم لك الأدلة والبراهين عليه.
أما الآن، فإنك سترى بعينيك حقيقة ما كنت تحسبه وهما وضلالا:
{فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد}.
لقد كشف عنك غطاء الغفلة الذي كان مضروبا على بصرك، فبصرك اليوم حديد، أي قوىّ، يرى كل ما بين يديك وما خلفك.. فالحديد من الحدّة، وهى القوة، وحدّ السيف: الجانب القاطع منه.
وهذه الآية تشبه ما جاء في قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا؟ هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [51، 52 يس].
قوله تعالى: {وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ} القرين هنا، هو صاحب السوء، الذي يضلّ صاحبه، ويقوده إلى مواقع الإثم والضلال.. والمراد به هنا الشيطان، ومن يشبه الشيطان من الناس في الإغواء والإضلال.
إن قرناء السوء يبرأ بعضهم من بعض يوم القيامة، ويقع بينهم التلاحي والترامي بالتهم.. أما أهل السلامة والتّقى، فإن المودة قائمة بينهم في الدنيا، على التناصح، والتناصر، والتواصي بالحق والصبر، فإذا كان يوم الآخرة، تلاقوا على الرضا، وتساقوا كئوس الحمد والرضوان، كما يقول سبحانه:
{الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [67: الزخرف].
فقرين السوء الذي زيّن الضلال لصاحبه، يلقاه يوم القيامة بما كان قد زيّنه له، مما يسوءه ويسوقه إلى جهنم.. إنه حين تحيط بالضلال خطيئنه، يتلفت حوله باحثا عن قرينه، فلا يجد من قرينه إلا هذه البضاعة الحاضرة!! قوله تعالى: {أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ} الضمير في {ألقيا} يعود إلى السائق والشهيد، في قوله تعالى: {وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ} فتلك هى الغاية التي يساق إليها هذا الضالّ المكذّب باللّه واليوم الآخر، وذلك هو الحكم الذي يقضى به الحكم العدل، بعد أن يؤدى الشاهد شهادته.. وليس هذا حكما مقضيّا به على واحد بعينه، وإنما هو حكم يؤخذ به كل كفار عنيد.. إنه حكم عام على أهل الكفر والضلال، فكل نفس قد جاءت ومعها سائق وشهيد.. أما النفس المؤمنة الصالحة، فتزفّ إلى الجنة، في حفاوة وتكريم.. وأما النفس المجرمة الفاجرة فإنها تدفع دفعا، وتلقى إلقاء في جهنم، كما يلقى الحطب في النار.
وقوله تعالى: {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ} هو من حيثيات هذا الحكم الذي حكم به على أهل الكفر والضلال.. فالكفر هو الذي أورد أهله هذا المورد الوبيل، والكفر هو الذي قاد صاحبه إلى العناد والشرود عن الحق، وهو الذي جعل بينه وبين الخير هذه العداوة المستحكمة، التي تجعله يكره وجه الخير، فيلقاه محاربا له في نفسه، وفى الناس.. والكفر هو الذي جعله حربا على الآمنين والمسالمين، يبادئهم بالعدوان بغير جريرة منهم إليه.
ثم يقوم على هذه المآثم كلها، هذا الإثم الغليظ، وهو الشرك باللّه.
وقوله تعالى: {فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ} تأكيد للحكم: {ألقيا في جهنم} الذي ووجه به الكافر قبل أن يستمع إلى حيثيات الحكم، ثم إذا استمع إلى تلك الحيثيات، جاء الحكم في صورة أشدّ هولا، وأسوأ عاقبة.. إنه ينزل من جهنم في أسوأ منازلها، وأشدّها عذابا.


{قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (35) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)}.
التفسير:
قوله تعالى: {قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} هو عرض لصورة من صور التلاحي والترامي بالتهم بين قرناء السوء يوم القيامة.
فحين يؤخذ أحد القرينين- وهو التابع- ليساق إلى جهنم، يتعلق به صاحبه، قائلا: ربّ هو الذي أضلنى عن الحق، وأغوانى بما أغوانى من ضلال.
وهنا يحاول القرين المتبوع، وهو الشيطان- دفع هذا الاتهام عن نفسه، فيقول:
{رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ}.
إنه كان مسوقا إلى الضلال بنفسه، متجها إليه بأهوائه، سواء وجد من يدعوه إلى هذا الضلال أو لم يجد.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} [22: إبراهيم].
قوله تعالى: {قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ}.
هو قولة الحق من اللّه سبحانه وتعالى، إلى قرناء السوء، سواء منهم التابعون، والمتبوعون.. إنه لا تخاصم اليوم بين يدى اللّه، فقد توعد اللّه أهل الضلال، وحذرهم عاقبة أمرهم، وإن مع كل إنسان عقلا يدرك به، ونظرا يرى به عواقب الأمور، وليس يغنى في مقام المساءلة والمحاسبة أن يلقى إنسان بجرمه على غيره {بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ} [14- 15: القيامة].
قوله تعالى: {ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}.
أي أنه لا ينقض هذا الحكم الذي قضى اللّه به في أهل الضلال، ولن تنفع الظالمين معذرتهم، ولا هم يستعتبون.
وقوله تعالى: {وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}.
هو توكيد ل قوله تعالى: {ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ}.
لأن هذا حكم من أحكم الحاكمين، رب العالمين، الذي يقضى بين عباده بالحقّ.
قوله تعالى: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ}.
أي إن هذا القضاء إنما يكون يوم القيامة، يوم يعرض الناس على رب العالمين، يوم يساق المجرمون إلى جهنم.. وإنهم لأعداد كثيرة، يتقحمونها فوجا بعد فوج، وهى فاغرة فاها لتبتلع كل وارد عليها، دون أن تشبع.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ} 68:
(العنكبوت).
قوله تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ}.
هذه أول آية في هذه السورة تتحدث عن المؤمنين، وما أعد اللّه لهم من ثواب عظيم وأجر كريم.. فقد كانت السورة كلها مواجهة لأهل الشرك والضلال، وما دخل عليهم من شركهم وضلالهم، من إنكار ليوم البعث، حتى إذا جاءهم هذا اليوم، ذهلوا وذعروا، ثم إذا سيقوا إلى المحشر، والتقى بعضهم ببعض- أنكر بعضهم بعضا، وتراموا بالعداوة والبغضاء، ثم ألقوا جميعا في جهنم التي لا تضيق بكثرة الواردين إليها.
فقوله تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} هو النسمة العليلة المنعشة التي تطلع في هذا الجوّ الخانق، الذي يكظم الأفواه، ويزكم الأنوف، مما يهب من سعير جهنم، ومن صرخات أهلها.
إن يوم القيامة ليس كله هذا الهول وهذا البلاء، بل إن في هذا اليوم مباهج، ومسرات، وبشريات مسعدة لأهل الإيمان والتقوى.. وأنه إذا كان هناك جهنم التي تفغر فاها لأهل الشرك والضلال، فإن هناك أيضا جنة عرضها السموات والأرض أعدّت للمتقين.. وأنه إذا كانت جهنم تنتظر الواردين الذين يسوقهم إليها سائق عنيف يدعّهم دعّا، ويلقى بهم إلقاء فيها، فإن الجنة تسعى للقاء أهلها، وتلقاهم متوددة، متلطفة، تماما كما يفعل المضيف عند استقبال ضيف عزيز كريم، فيلقاه على الطريق مرحبا محييا.
فقوله تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ} أي قربت، والزلفى: القرب.. وهذا يكون في مقام الإحسان، كما في قوله تعالى: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ} [40: ص].
قوله تعالى: {هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ..}.
أي هذا الجزاء الكريم الطيب، هو ما وعد اللّه سبحانه به الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
والأوّاب: مبالغة من الأوب، وهو الرجوع، والمراد به الرجوع إلى اللّه، والاعتصام به في كل حال، وإضافة الأمر إليه في السراء والضراء.. فهذا هو مقتضى الإيمان الحق باللّه، حيث يقوم من هذا الإيمان شعور قوىّ حىّ، يصل الإنسان بربه أبدا، فإذا كان منه انحراف مع هواه لم يلبث أن يردّه هذا الشعور إلى ربه تائبا مستغفرا، كما يقول سبحانه. {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ}.
(201: الأعراف) والحفيظ: مبالغة من الحفظ، وهو حفظ الإنسان لنفسه، وحراستها من الأهواء والضلالات التي ترد عليها.. ثم حفظ ما اؤتمن عليه من أحكام دينه.
وقوله تعالى: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ} بدل من قوله تعالى: {أَوَّابٍ حَفِيظٍ}.
فالأوّاب إنما كان أوابا وكان حفيظا، لأنه كان على خشية لربه، وخوف من لقائه، وعذابه.
والمراد بالخشية بالغيب، الخشية التي تكون من الإنسان في غير حضور من وازع سلطان أو قانون، وحيث تمكن الإنسان الفرصة من أن يفعل المنكر، ويرتكب الفحشاء من غير أن يطلع عليه مطلع، ولكنه يردّ نفسه عن هذا خوفا من اللّه، وحياء من جلاله.
وفى ذكر الاسم الكريم {الرحمن} هنا إشارة إلى مبلغ التقوى والخشية التي تستولى على نفس هذا المؤمن الذي يخشى ربه، وهو يستحضر رحمته ويذكر سعة هذه الرحمة، ومع هذا فإن ذلك- وإن أطمعه في رحمة اللّه- لا يجرّئه على محاربته بالمعصية، بل إنه في حضور هذه الرحمة يكون أشد حبّا لربه، ومن أحب لم يكن منه عصيان لمن امتلأ قلبه بحبه.
وقوله تعالى: {وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} معطوف على قوله تعالى: {خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ}.
أي كانت منه خشية للرحمن بالغيب، وكان منه مجىء، وعودة إلى ربه بقلب منيب، أي راجع من شروده الذي كان متجها به إلى طريق المعصية.. فالقلب هو موطن المعتقدات الصالحة أو الفاسدة، ومصدر التصرفات الطيبة أو الخبيثة، كما يشير إلى ذلك الحديث الشريف: «ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهى القلب»!.
قوله تعالى: {ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ}.
هو التفات إلى أهل الإيمان والتقوى، هؤلاء الذين يخشون ربهم بالغيب، ويقبلون عليه بقلوب سليمة، منيبة، وهو دعوة كريمة من رب كريم إليهم أن يقبلوا هذه الضيافة الكريمة التي ينزلهم فيها، وقد جاءوا إليه سبحانه، مسلمين تائبين.
وقوله تعالى: {بِسَلامٍ} هو حال من فاعل {ادْخُلُوها} أي أدخلوا هذه الجنة التي أزلفت لكم، مصحوبين بسلام، لا يمسّكم ما يسوء أبدا.
قوله تعالى: {لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ}.
الانتقال من الخطاب إلى الغيبة، فيه مزيد حسرة لأهل الضلال والشرك، وكأن هذا حديث إليهم، وردّ على ما يغلى في صدورهم من حسد لأهل الإيمان والتقوى، الذين دعاهم اللّه سبحانه إلى جنته ورضوانه، وأنهم إذ يحسدون المؤمنين على هذه الجنة التي أزلفت لهم فليسمعوا إذن ما يؤحج هذه النار المشتعلة في قلوبهم من حسرة وحسد: إن هذه الجنة سيجد فيها أهلها ما يطلبون، وما يشتهون من كل شىء، يجدون ذلك حاضرا عتيدا بين أيديهم من غير سعى أوكد.. بل وأكثر من هذا، فطن اللّه سبحانه يسوق إليهم من فضله وإحسانه ما لم يقع في حسابهم، وما لم يخطر على بالهم، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَلَدَيْنا مَزِيدٌ} بعد قوله سبحانه: {لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها}.
قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ.. هَلْ مِنْ مَحِيصٍ} عاد الحديث مرة أخرى، ليصل ما انقطع من أخبار أهل الكفر والضلال، وما يلقون على طريق كفرهم وضلالهم، وما تنتهى إليه مسيرتهم التي تلقى بهم في سواء الجحيم.
وهذا الحديث يواجه المشركين بعد أن رأوا مشاهد القيامة، وما فيها من عذاب ونعيم، عذاب لأهل الكفر والفسوق والعصيان، ونعيم لأهل الإيمان، والطاعة والتقوى.. فلينظروا بعد هذا إلى أنفسهم، وليأخذوا الطريق الذي يشاءون، إلى النار إن شاءوا، أو إلى الجنة إن أرادوا. وأنهم إن أبوا أن يتوقفوا عن مسيرتهم على طريق غيهم وضلالهم، مغترين بقوتهم، معتزين بمكانتهم في أهليهم- فليعلموا أنهم أضعف قوة، وأقل شأنا ممن كان قبلهم من أهل الضلال، وقد أهلكهم اللّه، وأنزلهم منازل الهون والعذاب.
وقوله تعالى: {فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ}.
التنقيب في البلاد: السعى بالإفساد فيها، واستعمال قوتهم في الاستبداد بالعباد، كما يقول سبحانه في فرعون وملائه:
{وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ} [10- 13 الفجر] وقوله تعالى: {هَلْ مِنْ مَحِيصٍ؟} أي هل انتفع هؤلاء المغترون بقوتهم المعتزون بسلطانهم، في ردّ بأس اللّه عنهم، وفى رفع البلاء الذي أخذهم به؟
كلا. فما أغنى عنهم ذلك من اللّه من شىء.
والمحيص: المفرّ من مواجهة البلاء، والتماس السلامة من الهلاك.. وفى هذا يقول الشاعر:
وهل نحن إن حصنا عن الموت حيصة *** هل العمر باق والمدى متطاول؟
قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} أي في هذه المعارض التي تعرضها الآيات، في مقام الوعد أو الوعيد- في هذه المعارض موعظة، واعتبار، وذكرى.. ولكن ليس هذا لكل إنسان، بل {لمن كان له قلب} أي كان ذا قلب سليم، معافى من الآفات التي تقتل كل بذرة خير تبذر فيه، فلا تنبت زهرا، ولا تطلع ثمرا.. كما أن المعارض فيها عبرة، وذكرى، وموعظة، لمن كان قلبه في غفوة وغفلة عن مواقع العبر والعظات، ولكن كان له أذن واعية، تستمع لما يلقى إليها من آيات اللّه وكلماته، ومن نصح الناصحين، ووعظ الواعظين.. وهنا يتنبه القلب الغافل، ويصحو القلب الغافى.
وهذا يعنى أن الإنسان قد يتهدّى إلى الهدى بنفسه، ويرد موارد السلامة والنجاة ببصيرته، إذا كان معه قلب سليم، وفطرة لم تقع فريسة لآفات الهوى والضلال.. فإذا لم يكن مع الإنسان هذا القلب وتلك الفطرة، فإنه يمكن أن يأخذ طريق الهدى من خارج ذاته، إذا هو أصغى إلى كلمات الحق الواردة عليه من رسل اللّه، أو الراشدين المهتدين من عباد اللّه.. شأنه في هذا شأن الأعمى، الذي إن أسلم يده لمبصر قاده إلى مأمنه، وإن هو استبدّ به العناد، وأبى أن يعطى يده لأحد، سار متخبطا، يتردّى في الحفر والمعاثر، حتى يهوى في مهلكة من المهالك!

1 | 2